الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم جلوس الحائض في رحبة وساحة المسجد

السؤال

ما حكم جلوس الحائض في ساحات الحرم النبوي، وسط المصلين، أثناء الصلاة؟
وإذا كان ذلك لا يجوز. فهل يجوز لها أن تعتزل المصلين، وتجلس في جانب من الساحة بعيدا عن المصلين، وتستمع للصلاة، وتؤمن على دعاء الإمام؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالذي يظهر لنا أن هذه الساحات لا تأخذ أحكام المسجد، بحيث يحرم فيها البيع والشراء، ولبث الحائض، ويشرع فيها الاعتكاف؛ لأن الظاهر من تصميمها التفريق بينها وبين بناء المسجد، بدليل إنشاء صناديق للأمانات فيها بالأجرة، ولو كانت كالمسجد لم يجز إجارة شيء منها ولا فيها، كالبيع.

ويظهر ذلك أيضا باعتبار الساحات المبنية خلف المسعى في الحرم المكي، فإنها محاطة بسور له أبواب خارجية، وفيها أبواب مشرعة في المسعى، منها يدخل الناس للمسعى ثم للمسجد، ومن المعروف أن الحائض يشرع لها السعي بين الصفا والمروة اتفاقا.

قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: العلماء مجمعون على أن الحائض تشهد المناسك كلها غير الطواف بالبيت؛ لقوله عليه السلام لعائشة: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري". اهـ.

وراجعي في ذلك الفتويين: 27063، 101712.

ولا يستقيم أن تجعل الساحة التي تلي المسعى من المسجد، ولا يكون المسعى منه، وهو بين المسجد وبين الساحة!!
ويتأكد هذا بما رواه ابن بطة بإسناده عن عبد الرزاق حدثنا الثوري عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قالت: كن المعتكفات إذا حضن، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهن عن المسجد، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن. ورجاله ثقات من رجال مسلم.

ونقله ابن مفلح في الفروع، وقال: إسناد جيد. ورواه أبو حفص العكبري أيضا. ونقله يعقوب بن بُخْتان عن أحمد. وقال أحمد: النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن تضرب قبة في رحبة المسجد. رواه ابن بطة بإسناده عن يعقوب.

قال صاحب المحرر: وهذا من أحمد دليل على ثبوت الخبر عنده. انتهى من الفروع.
وذكره الزركشي في (إعلام الساجد بأحكام المساجد) وعزاه لابن بطة في كتاب جواز اتخاذ السقاية في رحبة المسجد.
ولهذا الأثر قال الخرقي في مختصره: إذا حاضت المرأة، خرجت من المسجد، وضربت خباء في الرحبة. اهـ.
ولذك قال المرداوي في الإنصاف: رحبة المسجد ليست منه. على الصحيح من المذهب، والروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي؛ و «الحاويين»، و «الرعايتين» في موضع. وقدمه المجد في «شرحه»، ونص عليه في رواية إسحاق بن إبراهيم. اهـ.
ويدل لهذا أيضا ما ذكره الإمام مالك في الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب بنى رحبة في ناحية المسجد، تسمى البطيحاء، وقال: «من كان يريد أن يلغط، أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة».
وهذا وصله ابن شبة في تاريخ المدينة، والبيهقي في السنن الكبرى عن مالك قال: حدثني أبو النضر عن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب، فذكره.

وجوَّد السمهودي إسناده في وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، وقال الألباني في تحقيق إصلاح المساجد للقاسمي: رجاله ثقات، لكنه منقطع بين سالم وجده عمر. اهـ.

وذكر ابن شبة عن شيخه محمد بن يحيى الكناني قال: وقد دخلت تلك البطيحاء في المسجد، فيما زيد فيه بعد عمر رضي الله عنه. اهـ.
واستدل بهذا الأثر الحافظ ابن حجر في الفتح على أنه قد يفرق بين حكم الرحبة وحكم المسجد، حيث قال: وقد يفرق حكم الرحبة من المسجد في جواز اللغط ونحوه فيها، بخلاف المسجد مع إعطائها حكم المسجد في الصلاة فيها. اهـ.

وقال الشيخ عبد الكريم الخضير في شرح المحرر في الحديث: أحياناً يكون هناك ملحقات في المسجد كالساحات -مثلاً- الخارجة عن سور المسجد، هذه ليس لها أحكام المسجد، ولا يصلى فيها إلا إذا اتصلت الصفوف، أحياناً يكون في هذه الساحات دورات مياه، محل قضاء الحاجة مما يدل على أنها لم يقصد أن تكون مسجداً، وإنما هي من مرافق المسجد، قد يحتاج إليها إذا ضاق المسجد، واتصلت الصفوف، هذا لا إشكال فيه. اهـ.

وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن الغرف الملحقة بقاعات الصلاة، هل يجوز البيع والشراء فيها لصالح المسجد؟

فأجابت: إن كانت داخلة في سور المسجد فلها حكم المسجد، والقول فيها كالقول في القاعة، أما إن كانت خارج سور المسجد ولو كانت أبوابها فيه، فليس لها حكم المسجد؛ لأن بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي تسكنه عائشة -رضي الله عنها- كان بابه في المسجد، ولم يكن له حكم المسجد. اهـ.

ومع ترجيح كون هذه الساحات ليست لها أحكام المسجد، وبالتالي جواز لبث الحائض فيها، إلا إنها تُنهَى عن الجلوس وسط المصلين، كما تفعل الحائض إذا خرجت لمصلى العيد، كما جاء في الحديث الصحيح: يَخْرُجُ العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخُدُورِ وَالحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى. رواه البخاري.

قال ابن حجر في فتح الباري: قال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن، أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات، إظهار استهانة بالحال، فاستحب لهن اجتناب ذلك. اهـ.

وقال القسطلاني في إرشاد الساري: فلا يختلطن بالمصليات، خوف التنجيس، والإخلال بتسوية الصفوف ...

والمنع من المصلّى منع تنزيه؛ لأنه ليس مسجدًا .. فيأخذن ناحية في المصلّى عن المصلين، ويقفن بباب المسجد؛ لحرمة دخولهنّ له. اهـ.

وقال المباركفوري في مرعاة المفاتيح: أي عن مكان صلاة النساء اللاتي لسن بحيض، يعني تنفصل وتقف في موضع منفردات غير مختلطات بالمصليات؛ خوف التنجيس والإخلال بتسوية الصفوف، وهو خبر بمعنى الأمر. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني