عبر مختلف الحضارات على مر الزمان
مسقط ـ العمانية:
لم يكن العمانيون في أي فترة من فترات التاريخ في معزل عن النتاج الثقافي والفكري لمختلف الحضارات على مر الزمان، وبالنظر إلى المنجز الفكري العربي الإسلامي نجد أن العمانيين قد شاركوا في صناعة الثقافة والفكر من فترة مبكرة في تاريخ نشوء العلوم العربية والإسلامية. فكتب العمانيين تشهد على ذلك الإسهام وكذلك كتب السير والتراجم وطبقات الرجال.
وقد نشأت المدارس العلمية في عمان منذ القرن الثاني الهجري على يد العلماء العمانيين القادمين من البصرة وشكلت مراكز الاستقرار منطلقًا لنشر العلم والمعرفة في عمان على مختلف بقاعها. صاحب ذلك حرص العلماء والأئمة على العلم والمعرفة ومطالعة كتب العلماء الآخرين من كتب المدارس الفقهية الأخرى وجلبها إلى عمان ومناقشتها والتعليق عليها. وقد شكل موسم الحج فرصة مواتية للتباحث والمدارسة مع علماء المدارس الإسلامية الأخرى. كما أن سوق الكتب في عمان قديمًا كان كثير الثراء والغنى كما تدل على لك تقييدات البيع والشراء المتناثرة في الكثير من المخطوطات العمانية.
التعليق وعمل الحواشي على كتب المدارس الإسلامية الأخرى واحد من ملامح التفاعل الثقافي لعدد من علماء عمان. كثير من التعليقات أتت منسوبة إلى من قام بها بينما مازال الكثير من مخطوطات المدارس الإسلامية الأخرى والتي تحتفظ بها الكثير من خزائن المخطوطات في عمان تضم بين جنباتها تعليقات وحواشي علماء عمان وتحتاج تلك التعليقات إلى نشرها وإبرازها للقراء، حتى تتجلى الصورة الكاملة لأوجه وملامح التفاعل الفكري وحرص العمانيين على الاستفادة من إنتاج غيرهم من علماء الإسلام.
ومن أبرز العلماء الذي كان لهم دور في التفاعل الفكري الشيخ أبي سعيد الكدمي في تعليقه على "كتاب الإشراف" لابن منذر النيسابوري، وهناك أيضا تعليقات لعدد من العلماء العمانيين على كتاب (عيون الأخبار) لأبي محمد عيسى بن علي بن أحمد الأندلسي ( توفي في 420هـ ) وتعليقاتهم كذلك على كتاب "طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب" لأبي محمد عبدالعزيز بن أحمد بن سعيد الدِّيريني (توفي في 694هـ).
ويعد الشيخ أبي سعيد محمد بن سعيد الناعبي الكدمي (يرجح بعض الباحثين ولادته في سنة 305م والبعض الآخر بين 298هـ و 300هـ) واحدا من أبرز العلماء العمانيين الذين تركوا بصمة علمية وفكرية واضحة على من جاء من بعده من علماء عمان. أخذ العلم عن جملة من العلماء منهم محمد بن روح الكندي ومحمد بن حسن السعالي (توفي 338هـ)، رمشقي بن راشد والإمام سعيد بن عبدالله الرحيلي (توفي 328هـ).
أما الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن المنذر النيسابوري (توفي في 317هـ) فهو من كبار علماء السُّنة والحديث والفقه في القرنين الثالث والرابع الهجريين وقد ألف في السنة والفقه كثيرًا، وأشتهر من بين مؤلفاته كتاب " الأوسط في السنن والإجماع" وميزة التأليف في الكتاب أنه يورد (على مختلف أبواب الفقه) كل المرويات الصحيحة التي تشكل سنة متبعة، ومن جهة أخرى يذكر آراء العلماء المختلفين في كل مسألة أو يورد أهمها مع ذكر عللهم وأدلتهم. ولذلك يعد هذا الكتاب للإمام النيسابوري كتاب إجتهاد فقهي ومن جهة ثانية يمكن اعتباره من كتب الاختلاف الفقهي والاجماعات الفقهية.
ولأجل ما تضمنه كتاب الإشراف من مميزات فقد أقبل العلماء على شرحه أوإيجازه او الزيادة عليه. ولذلك أقبل أبو سعيد الكدمي من علماء القرن الرابع الهجري على كتابة " زيادات على ابن المنذر في كل باب من أبواب الفقه. وإذا عرفنا أن الفترة العمرية بين الكدمي وابن المنذر بما لا يزيد عن الخمسين عامًا، نلاحظ سرعة شهرة كتاب ابن المنذر، ولقيمته المرجعية رأى أبو سعيد الكدمي ان يزيد فيه ويطرح آراء المدرسة الإباضية التي لم يورد ابن المنذر أي ذكر لها. وكان هدف سعيد الكدمي من الزيادات التقريب بين العلماء المسلمين بذكر آرائهم على قدم المساواة وتجديد الحركة الاجتهادية بعرض وجهات نظر متعددة في سائر الأمور. وعرف عن الكدمي أنه لقب بإمام المذهب وكان مدرسة فقهية عمانية قد لعبت دورا في لم شمل علماء عمان بعد ما مر بهم من جدل حول قضية عزل الإمام الصلت بن مالك وما تلى ذلك من أمور.
كتاب زيادات أبي سعيد الكدمي قامت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بطباعته في خمسة مجلدات ونشرته محققا على يد الباحث إبراهيم بن علي بولرواح في سنة 2011م.
كتاب "عيون الاخبار" لأبي محمد عيسى بن علي الأندلسي لقي عناية العلماء العمانيين وتعليقاتهم عليه، وهو كتاب في الرقائق والمواعظ، تناول الواجبات الشرعيات من الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقد قام الباحث العماني فهد بن علي السعدي بتتبع تلك التعليقات وقد وجد أنها تبلغ الثلاثين تعليقا موزعة على سبع نسخ من الكتاب في مختلف خزائن المخطوطات في عمان. أغلب تلك التعليقات غير منسوبة إلى أصحابها بينما تبقى هناك عدد قليل منها منسوب إلى الشيخين صالح بن سعيد الزاملي (توفي 1073هـ) ودرويش بن جمعه المحروقي(توفي 1086هـ) وكلاهما من علماء القرن الحادي عشر الهجري، ولكن يعتبر الأول شيخًا للثاني. ويصل عدد التعليقات المنسوبة إلى الزاملي خمسة تعليقات بينما يوجد تعليق واحد منسوب إلى المحروقي. تعليقات علماء عمان على كتاب عيون الأخبار قام بجمعها وضبط نصوصها الباحث العماني فهد بن علي بن هاشل السعدي وقد صدر الكتاب عن مركز ذاكرة عمان في مطلع هذا العام 2016م وأتى الكتاب في 68 صفحة من القطع الصغير.
طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب من تأليف أبي محمد بن عبدالعزيز بن أحمد بن سعيد الدِّيريني المتوفي في سنة 694 هجرية. ولهذا الكتاب شهرة مطبقة وخصوصا أنه من كتب الزهد والتصوف ويقع في ثلاثين فصلاً، جمعها المؤلف ويقول عنها: "ما بين آيات مفسّرة، وأخبار مسندة مؤثرة، وخطب وعظية مبتكرة، وكلمات منقولة عن السلف الصالحين، ونظم ونثر من كتب الأئمة العاملين".
قام الباحث العماني فهد بن علي بن هاشل السعدي بجمع التعليقات على طهارة القلوب وضمنها في كتاب صدر عن مركز ذاكرة عمان في مطلع هذا العام 2016م. ويقع الكتاب في 44 صفحة من القطع الصغير.
بلغت تعليقات علماء عمان على "طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب" ثلاثة عشر تعليقا وهي كلها ردود عقدية وغير منسوبة إلى أصحابها، وقد قام الباحث بجمع التعليقات من عدة نسخ من مخطوطات الكتاب بلغت 6 نسخ من مختلف خزائن المخطوطات في عمان.